إعلان رأس الصفحة

الثلاثاء، 7 يوليو 2020

طقوس الموت والحزن - يخبت بريق الوجه بموت صاحبه، كأنما تعيش الروح فعلا في تلك الصور

تمر الشهور ولم يتغير، إلا بريق تلك الصور

صلوات تتلى ودموع تنسكب، يتعالى النواح ويكثر الندب، قامات تتهاوى، ورجال لا تتزن، وماء طهور ينكسب، وكلمات وداع تلقى على مسامع روح عن جسدها تنتفض، في لقاء أخير لن يعود، و ذكريات تتوالى وآلآم لا تنحسر، تلك طقوس ترافق من إلى ربه يتجه، تلك تجربة الفقدان بالموت، إنها أحداث رتيبة بالرغم من أنها ترتجل.
تجربة مفزعة، وطريق محفوف بالبكاء والألم، ففقدان ما عليه تعودنا أو امتلكنا مؤلما، فكيف في فقدان من كان مركز الدوران لحياتنا.

قد يستاءل البعض قائلين: كيف لحزين أن ينشر أساه على الملأ؟ لكنهم لا يعلمون أن الحزين يود لو يجمع كل من أحبهم في حياته ليكلمهم عما حدث.. حتى أولئك الذين غدروا به.. ينسى فعلهم.. يريد فقط أن يشعر بالحب الذي فقد. لا يعلم ما يدور في خلد الحزين إلا من مر بتجربته وأعز من على قلبه فقد. هكذا حالنا نحن البشر.

تستيقظ كل يوم لا تريد النهوض، والروح تنادي باسم المفقود. شئ من أعماقك يصرخ ليقول أن فلانا لم يعد موجود، كصراخ إبليس في جوف شخص ملبوس. وبرغم كل ما يحدث ويدور، عليك التعامل مع الجمهور... كممثل محترف على خشبة مسرح يجب أن تكون... فهناك طفل صغير عابث، وعائلة وأصدقاء، أشخاص كثر لا تعرفهم يمرون أمامك في وقت العزاء... وأناس لا تفقه يمرون أمامك بخيلاء.. يشعرون بأنهم محصنون من هذه الويلات... يستبعدون وصولهم إلى آخر محطة، وكأنهم امتلكوا إكسير الحياة من شجرة التفاح، وضمنوا الخلود فلا يهرمون أو يموتون، فارتكبوا ذات الخطأ الذي وقع فيه آدم ..أبو الكون. يجب عليك أن تكون ذلك الممثل، فممنوع عليك البكاء، فهذا ينهار، وذاك بالصراخ ينتحب، عليك أن تتمالك خطاك، فلا تخضع لذاك الدوار، ليس الآن.. ليس وقت الانهيار... ذاك دور الآخرين... ثم على صدر من بالأصل ستنهار؟ ليس هناك أحد.. فقط أنت وتلك السكين، عليك أن تمسكها حتى لا تتهاوى في أعماقك أكثر.. فهناك من ينتظرك.. عليك أن تتمالك نفسك أكثر. مسؤوليات تتهاوى على كاهلك ووصايا أنت عاجز فيها، فليس بيدك الأمر على تنفيذها. وترمى كلمات كالجمر على جسدك... رأسك يدور ولا تعلم ما الذي أمامك يردد؟ هل يقصد ما قال أم أنه يهلوس؟ لا تريد الرد .. بل إنك لا تستطيع، فالحزن قابع كاللقمة في حلقك.. تفضل البرود والتبلد .. ثم تسير على أمل أن تستيقظ من كابوسك.

الجثة تسير إلى قبرها والناس من حولها ومن خلفها، يعتقدون أنهم هم من يحملوها لكن الحقيقة أنها تجري كما النهر، تدفن فيدفن القلب معها في اللحد، ثم تدعو وتدعو وتنهمر الأرواح على ذاك التراب تقبله، في لقاء أخير يستحيل اللقاء بعده، يشوبه الشوق والألم والأمل، بلقاء قريب في حلم عابر أو رؤيا أو حتى في البرزخ. ويبدأ الصراع بين ما رأيت وما تصدق... فما زلت تشعر بتلك الروح في صدرك وحولك، والصوت يتكرر مرارا مناديا عليك في أذنك... هل فعلا لن أراه ثانية؟

مثل قطع عضو من الجسد، تبقى تشعر بألم في مكانه كأنه ما زال معك، يقطع ذاك الشخص بالفأس من شجرة عائلتك، ورغم غيابه وبعده واستحالة لقائه، يبقى القلب مشغولا بصوته وجمل قالها لك سابقا كأنه يتوق لمكالمتك، وتتوق النفس لرسالة أو مكالمة عابرة، ثم تبحث حواسك في تقنيات هاتفك، يمر أصبعك بشغف وأمل مكتوم الصوت، وعينك تلاحقه وتلتهم الرسوم والكلمات على شاشتك، تبحث عن أي شئ يروي ذاك الشوق الذي ملأ شعاب جسدك، صورة أو ملف صوتي أو رسالة ... تبحث وتبحث كأنك تحفر في الصحراء عن ماء يروي ظمأك... فالغربة شنعاء، قد محت الكثير مما امتلكت، كسيدة أحرقت مزرعة أخرى، ظلما ومكرا..

وكلما وجدت شيئا زاد الشوق ليحرق عظامك، فالشوق لمن فارق الحياة يقطع في الجسد كساطور الجزار.. لا يرحم... وتتساءل، ها هي الصور، ها هي الكلمات، أمعقول هذا الفراق؟ كأن التقنيات حرمتنا هدوء الرضا بالقدر وتقبل الفراق. وكلما أردت الاختلاء بنفسك لذت بالفرار، إلى ملف صورك على الهاتف لتغوص في الذكريات، وبدء أحاديث لا يسمعها سواك.

الهمسات في ليالي من فقدوا محبيهم تتعالى، حديثا عن الشوق والعتب على الفراق، ثم يبدأ الاستغفار عما بدر من أفكار، والدعاء لهم بالرحمة والغفران. ثم يبدأ العراك بين الإيمان والآلام، بين الإيمان بالقدر ووسوسة الشيطان... وتتقاذفك الأفكار، وليس هناك من حل ونهاية سوى الرضا بالأقدار.. وإلا سيقع الجريح أسير الكفر بالأقدار. وأين نحن من قدر كتبه رب الأكوان والأقدار! فإن لم تكن تجربتنا المؤلمة درسا، فإننا من الفاشلين حتما، فلم نفهم ذاك الإنذار.

ثم تتوالى الأيام والصراعات لا تنتهي ولا أشواط الدموع والبكاء...
فكل مرة نقول هذه المرة الأخيرة، وغدا سيكون أفضل، لكننا نعود والألم في ليلته الأولى كأنها لم تمر عليه الأيام. وتفور الذكريات من الماضي السحيق كما تفور حمم البركان... لا تخلف سوى الرماد المشتعل الذي لا ينفع معه الماء العذب ولا الدفن في التراب، فهو يحرق كل ما وضعت من حواجز بينك وبين الأحزان. تذكر ما غاب عنك منذ أزمان، مواقف وكلمات اعتقدت أنها لم تعد موجودة، لكنك تكتشف أنها لم تختف يوما، بل كانت محفوظة كصندوق كنز، غلبت في جودة حفظها تقنيات هذا الزمان.



وكلما قررت أن تمضي قدما، تكتشف أنه ليس بمقدورك سوى تناول حقنة مسكنة للآلام، تشعر بالألم لكنك تمضي وتسير مسيرتك العرجاء، إنك مجبر فمن حولك يهتفون كما لو كنت بطلا تستطيع فعل المستحيلات، وكلما تسارعت أحداث الدنيا من حولك اعتقدت أنك تجاوزت المحن، لتكتشف أنك ما زلت قابعا في القاع، وجل ما فعلته أنك أمضيت وقتا أطول في التنفس تحت الماء، فالدموع تخنق عينيك وقلبك لا يكف عن ذكر اسمه مع كل فعل وكل مساء، وتراه عينيك حتى تظن أنه موجود وأنك لست سوى تخترع سببا للبكاء. تشيح بوجهك وعينيك عمن حولك حتى لا تسمع النقد، فكلماتهم كأنها أسهم تغرز، وتتأمل قولهم، كأنهم لم يفارقوا عزيزا يوما، وتختار الطريق الأسهل، وترسم على وجهك ابتسامة حمقاء، فيؤلمك وجهك، فقد رسمت عكس ما تشعر به من عناء، وتثقل وجنتيك بما يفوقها من قدرة حتى يسقط القناع.

من قال أن الحزن بالقلب فقط فقد كذب، فللحزن طقوس وعلامات، فالنفس تعوف الزينة والفرح، وتفقد الروح لذة الاجتماعات. جل ما تتوق إليه النفس صوتا أو شخصا ما زال يحمل رائحة من فقدت، وتتردد عليه مهما حدث كمجرم يعود إلى ذات الموقع الذي ارتكب فيه الجريمة.

وتمر الشهور ولم يتغير، إلا بريق تلك الصور، يخبت بريق الوجه بموت صاحبه، كأنما تعيش الروح فعلا في تلك الصور.

1:49 م / by / 0 Comments

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزي الزائر، اترك تعليقا، عبر عن نفسك وشاركنا برأيك.

إعلان أسفل الصفحة