إعلان رأس الصفحة

الأحد، 9 أغسطس 2020

مقال: المريض ليس فقط حالة مرضية


كنت صغيرة وكان حلمي أن أكون طبيبة أو مخترعة لدواء..دارت الأيام وشاء الله أن أدرس العلوم الحياتية.
حينما كنت أدرس مادة (علم الحيوان) كان أساتذتي قد وضعوا خططا للتعامل مع الحيوانات في المختبر وتشريحها، لذا قمنا بتشريح ثلاثة أنواع من الحيوانات، تمثل كل منها class معين، وكنا قد بدأنا بالسمكة، ثم الضفدع، وأخيرا الفأر.
كان الأمر جميلا جدا وممتعا في التعامل مع السمكة، فهي حيوان اعتدنا رؤيته على موائدنا، ورأينا أفراد عائلاتنا يتعاملون مع هذا الكائن المسالم.
أما الضفدع فكان بداية المصاعب، فلقد جاء به الأساتذة حيا يرزق، ومن ثم تم وضعه بإناء يحتوي على مخدر قاتل، وهي إحدى طرق قتل الحيوان قبل التشريح، ويعد حلا مثاليا بدلا من الإمساك بالحيوان ودق عنقه على طرف منضدة في المنطقة بين الرأس والعمود الفقاري.
كان المخدر ذو رائحة فواحة مقرفة، استمرت ذكرياتها معي أثناء خضوعي لتدريبات في المختبرات الطبية في المستشفيات... رائحة مميزة ونفاذة... طبعا رائحة الكلوروفورم.
بعد موت الضفدع، قمنا بتشريحه، بداية من قص جلده من ناحية البطن، كان الأمر مثيرا نوعا ما، فنزع جلده يشابه نزع أحدنا لسترته الجلدية.
كان بعض الطلاب يقومون بالأمر بالاستمتاع والإثارة المطلوبة من طالب الأحياء، بينما وقف البعض مشاهدين يحاولون القيام بالأمر، وبعض قليل ممانع تماما للتدخل.
خرجت بعد تلك التجربة كالسكارى، فرائحة الكلوروفورم قد أرهقتني، ونشوة الفضول والعلم والقيام بأمر مثير كان لها الجانب الأكبر، لكنه بدأ يتناقص تدريجيا حتى أصابني الوهن والضعف بعد انخفاض نسبة الأدرينالين في الدم بسبب غياب سبب الإثارة... ووصلت بيتي بعد جهد جهيد .......

ثم كان تشريح الفأر .. وهو كائن يشابهنا بالعديد من الأمور، ولهذا يتم الاعتماد عليه في التجارب المخبرية.
كان أمرا ذو رهبة... كان له دما ينزف مثلنا..
استجمعت شجاعتي كاملة لأقوم بخوض مغامرتي بعد إمعاني للنظر إليه طويلا متسائلة.. كيف لي قتله وتقطيع أعضائه واحدا تلو الآخر...
كنا اثنين في المجموعة.. كان الآخر زميلي يسألني في كل لحظة... هل أتولى الموضوع؟ هل ستستطيعين ذلك؟ فقلت غير آبهة بالنتائج... أجل ... أنا لها ....
وفي ظروف مشابهة لدراسة الضفدع... قمت بخطوة البداية وقص الجلد واللحم بحثا عن الأعضاء...
وبعد الانتهاء خرجنا .. هو تملكه الضحك لأنه قص ذيل الفأر .. وأنا كنت مغيبة عن الدنيا لا أشعر بشئ سوى بخدرٍ في رأسي كمن تلقى ضربة على رأسه. كان الوضع هذه المرة رهيبا ذو هيبة وألم. وانتهى بي الأمر في بيتي بعد طريق طويل جدا لم أعلم كيف اجتزته وأنا في تلك الحالة .. حالة من النشوة العلمية المعرفية والانتصار بخوض غمار التجربة بين عديدين لم يستطيعوا أو يقوَوا على ذلك...

لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد... فلقد فاجأنا الأستاذ باستخدامه فأرا في الامتحان النهائي، لإجابة بعض الأسئلة المتعلقة به خلال دقيقة، والأمر يتطلب حمله بيد عارية...
أجل ... لقد كان الامتحان إما أن تستطيع وإما لا... حدد قدرتك..
ومع أنني كنت أختبئ خلال التجارب خلف زوجين من القفازات، فلقد قررت القيام بذلك وكسب التحدي...
وفعلا كان ذلك... لكني خرجت بعد إنهائي الامتحان أركض طالبة صابونة التطهير خاصتي .. وذهبت أغسل يداي مرارا من تلك الرائحة التي علقت بيداي وأنفي لأيام....والتي ما زلت أشمها إلى الآن.... لكني كنت فرحة بانتصار آخر ..

الآن بعد سنوات تناهز العشر، واجهت العديد من الأطباء الذين يعتبرون المريض فقط حالة تخضع لمنهج معين في الفحص .. خطوات رتيبة مع الجميع.. ذات الدقائق، و ذات الأسئلة، دون التطرق حتى لسؤال مختلف... أو الاهتمام بالاستماع... الأمر الذي يؤدي بالعديدين لارتكاب الأخطاء الجسيمة، سواء بعدم معرفة سبب الألم أو التعب لدى المريض وبالتالي ارتكاب أخطاء تشخيصية، أو ارتكاب أخطاء جراحية، أو إعطاء جرعة دوائية خاطئة أو حتى داء غير مناسب للحالة... فمثلا .. أحد أطباء الأسنان قام بإجراء ترتيبات علاجية على سن مريض أثناء معاناته من التهاب به، ثم التسبب بكسره، وفي النهاية محاولة خلع السن دون سؤال المرسض إن كان يتناول أدوية مهمة بشكل يومي أو أنه يعاني من مشكلة صحية معينة تستدعي التخوف من النزيف المستمر مثلا إن كان يتناول المميعات كالأسبرين.
أو إعطاء طبيب لمريضة حامل مضادا حيويا يحوي البنسلين رغم إخبارها له أنها تعاني حساسية من البنسلين.

على الطبيب أن يتعاطف مع المريض ويستمع له

كل ذلك جعلني أدرك أمرا مهما... ألا وهو وجوب معاملة الآدمي كآدمي وعدم اعتباره حالة مرضية فقط، حتى وإن كان لذلك آثارا سلبية على نفسية الطبيب بعد تطبيبه للعديد من المرضى أو حتى فقدانهم الحياة بين يديه.
فإن ذلك من شأنه رفع الإحساس بأهمية حياة الآخرين وخوض تجربة مثيرة لكن مقيدة بالمسؤولية اتجاه حياة الآخرين الذين يشاركوننا الإحساس والنزف والنبض والروح والألم.
يجب أن يكون الأمر ذو هيبة، لا أن ننتهي ونضحك على ما فعلنا.. لا يجب على الطبيب أن يفتح جسدا ثم يلقِ الطرائف فوق جسده المفتوح، أو يكون موضوع الطرفة هو ألمه أو الاستهزاء بشعوره بالألم.
أظن أنه يتوجب إيجاد طرق تعليمية أفضل في كليات الطب، بديلة عن طرق قتل الإحساس لديهم ليستطيعوا مواجهة العديد من الحوادث المؤلمة مع المرضى دون تأثر نفسي، وزرع الرغبة لديهم بالإثارة الناتجة عن نجاح المعالجة وليس خوض المغامرة فقط. وأن النجاح ليس سبيلا للشهرة، بل لخدمة المجتمع الذي نشأ فيه.
في ذاك الوقت فقط سنحصل على جيل ناجح من الأطباء، هدفهم المساعدة على شفاء الآخرين، وليس المال المنسكب من المهنة.
1:51 م / by / 0 Comments

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

عزيزي الزائر، اترك تعليقا، عبر عن نفسك وشاركنا برأيك.

إعلان أسفل الصفحة